تمثل العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك ذروة الموسم الروحاني والتعبدي في الإسلام، حيث تتجلى فيها رحمة الله وفضله على عباده بصورة استثنائية. هذه الأيام المباركة تحمل في طياتها فرصا عظيمة للتقرب إلى الله تعالى والفوز برضاه ومغفرته. تبدأ العشر الأواخر من الليلة الحادية والعشرين وتستمر حتى نهاية الشهر الكريم، وتتميز بفضائل وخصائص جعلتها محط اهتمام المسلمين على مر العصور، يستعدون لها ويحيونها بأنواع من العبادات والطاعات سعيا للفوز بخيراتها وبركاتها.
ليلة القدر جوهرة العشر الأواخر
من أبرز ما يميز العشر الأواخر من رمضان احتواؤها على ليلة القدر المباركة، التي وصفها الله تعالى في كتابه العزيز بأنها خير من ألف شهر. يقول الله تعالى في سورة القدر: ﴿إنّا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر
* ليلة القدر خير مّن ألف شهرٍ * تنزّل الملائكة والرّوح فيها بإذن ربّهم مّن كلّ أمرٍ * سلام هي حتّىٰ مطلع الفجر﴾.في هذه الليلة المباركة بدأ نزول القرآن الكريم على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها تقدر أقدار العباد للعام القادم. العبادة فيها تعادل العبادة في أكثر من ثلاثة وثمانين عاما، مما يجعلها فرصة استثنائية لا تعوض لنيل الأجر العظيم.
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تحريها في الليالي الوتر من العشر الأواخر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" (رواه البخاري). وهناك علامات لليلة القدر منها أنها ليلة طيبة معتدلة الجو، لا حارة ولا باردة، وتشرق شمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.
سنة الاعتكاف في العشر الأواخر
من الفضائل العظيمة للعشر الأواخر سنة الاعتكاف، وهي ملازمة المسجد للعبادة والطاعة وقطع العلائق عن الخلق للاتصال بخدمة الخالق. كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، كما ورد في الصحيحين.
الاعتكاف فرصة للانقطاع عن مشاغل الدنيا والتفرغ للعبادة والتأمل والتدبر، مما يعزز الصلة بالله تعالى ويعمق الإيمان في القلب. وهو وسيلة لتصفية القلب وتنقيته من شوائب الحياة اليومية وضغوطها، مما يساعد على استقبال ليلة القدر بقلب صاف ونفس مطمئنة.
مضاعفة العبادات والطاعات
تتضاعف قيمة العبادات والطاعات في العشر الأواخر من رمضان، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها. عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" (متفق عليه).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الدعاء في هذه الليالي المباركة، خاصة بدعاء: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (رواه الترمذي).
العتق من النار
من فضائل العشر الأواخر أيضا أنها موسم العتق من النار، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله في كل يوم وليلة عتقاء من النار، وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة" (رواه البزار). والعتق من النار يتضاعف في العشر الأواخر من رمضان، خاصة في ليلة القدر، مما يجعلها فرصة عظيمة للمغفرة والرحمة.
فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله
تتضاعف قيمة الصدقة والإنفاق في سبيل الله خلال العشر الأواخر، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وأجود ما يكون في العشر الأواخر منه. الإنفاق في هذه الأيام المباركة وسيلة لتزكية النفس وتطهير المال، وباب واسع من أبواب الخير والبركة.
الإكثار من قراءة القرآن
من الأعمال المستحبة في العشر الأواخر الإكثار من قراءة القرآن وتدبره، فشهر رمضان هو شهر القرآن، والعشر الأواخر هي ذروة هذا الشهر المبارك. يقول الله تعالى: ﴿شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدى لّلنّاس وبيّناتٍ مّن الهدى والفرقان﴾ (البقرة: 185). وختم القرآن في هذه الأيام من الأعمال المستحبة التي تقرب العبد إلى ربه.
الحرص على صلاة التراويح والتهجد
تكتسب صلاة التراويح والتهجد أهمية خاصة في العشر الأواخر، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحيي ليله بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (متفق عليه).
قيام الليل في العشر الأواخر له فضل عظيم، خاصة أنه وسيلة لإدراك ليلة القدر والفوز بخيراتها. وقد يسر الله للمسلمين في هذا الزمان أمر قيام الليل عبر صلاة التراويح في المساجد، مما يعين على الاستمرار والمداومة.
الذكر والدعاء
يعد الذكر والدعاء من أفضل الأعمال في العشر الأواخر، حيث يكون العبد أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد. والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتنوعة، منها ما هو خاص بالعشر الأواخر.
من الأذكار المستحبة في هذه الأيام: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، و"سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، و"استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه".
فضل العمرة في رمضان
أداء العمرة في رمضان، خاصة في العشر الأواخر، له فضل عظيم، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة" (متفق عليه). وفي رواية: "تعدل حجة معي". وهذا يدل على عظم فضل العمرة في هذا الشهر المبارك، وتزداد قيمتها في العشر الأواخر لاحتمال موافقتها ليلة القدر.
التوبة والاستغفار
العشر الأواخر من رمضان فرصة ذهبية للتوبة النصوح والاستغفار، فهي أيام تتنزل فيها الرحمات وتغفر فيها الذنوب. يقول الله تعالى: ﴿وتوبوا إلى اللّه جميعا أيّها المؤمنون لعلّكم تفلحون﴾ (النور: 31). والتوبة تجب ما قبلها، والعشر الأواخر وقت مناسب للمراجعة والمحاسبة وتجديد العهد مع الله.
فضل الإحسان إلى الناس
من فضائل العشر الأواخر أيضا أنها فرصة للإحسان إلى الناس بجميع صوره، من إطعام الطعام، وكفالة اليتيم، ومساعدة المحتاجين، وقضاء حوائج الناس، وإدخال السرور على قلوبهم. فالإحسان إلى الخلق من أحب الأعمال إلى الله، وطريق لنيل رضاه ومغفرته.
العشر الأواخر من رمضان فرصة ثمينة وموسم عظيم للتزود من الحسنات والتقرب إلى رب الأرض والسماوات. هي أيام معدودات تحمل في طياتها كنوزا روحانية وبركات ربانية، يفوز بها من وفقه الله واجتهد في اغتنامها بالطاعات والعبادات.