الْخُطْبَةُ الْأُولَى
الحمد لله الذي اصطفى نبيّنا واجتبى، فأوحى إلى عبده ما أوحى. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا رسول الله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، قال جل في علاه: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
أيها المؤمنون: في ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقف وقفة متدبر لسيرته، متأمل في القرآن الكريم لعظيم مكانته، فقد خصص الله تعالى سورًا ندرك من خلالها محبته لنبيه صلى الله عليه وسلم وتكريمه، ومنزلته عنده سبحانه وتقديره. ومن ذلك سورة الضحى التي نزلت بعد سورة الفجر؛ إيذانًا بتتابع نور الهدى وامتداده. أقسم فيها سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بوقتين، ونفى عنه شيئين، وأثبت له أمرين، وذكره فيها بثلاث نعم، وزوده فيها بثلاث وصايا.
فخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم مقسمًا بالنهار إذا أشرق، إشارة إلى وضوح هذا الدين ويسره، وبالليل إذا سكن، دلالة على ما يحمله هذا الدين من السكينة والطمأنينة: "والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى".
أي: ما تركناك منذ اخترناك وأحببناك، فأنت إلينا حبيب، ومنا قريب. فتأملوا في عموم قوله تعالى: "وما قلى" أي: ما قلاك ولا قلى أحدًا من أصحابك، ولا ممن أحبك إلى يوم القيامة. فاستبشروا يا من تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الوعد الإلهي الكريم، والعطاء الرباني العظيم.
عباد الله: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الضحى: "وللآخرة خير لك من الأولى" يعني: عطاؤنا لك فيها أتم وأوفى، وأعظم وأرضى: "ولسوف يعطيك ربك فترضى". فطب نفسًا يا رسول الله، ما تركناك وأنت يتيم، أفتظن أن نتركك وأنت نبي كريم؟ "ألم يجدك يتيمًا فآوى * ووجدك ضالًا فهدى"، فقد خصك بالعناية القصوى، والنعم الكبرى. فدلك على معرفته، واختارك رسولًا إلى خلقه، وأمينًا على وحيه: "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا". سبحان الله؛ أغناك من فضله، وأغدق عليك من رزقه: "ووجدك عائلًا فأغنى". فاللهم اجعلنا بهدي نبيك مقتدين، ولمكانته مقدرين، وبشفاعته من الفائزين: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه من بعده.
أما بعد: فيا أيها المحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لما ذكر ربنا عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بوجوه إحسانه إليه، وجّهه أن يُحسن إلى الآخرين بمثلها، فأوصاه برعاية حق اليتيم قائلًا: "فأما اليتيم فلا تقهر". فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحنو على الأيتام ويرعاهم، ويحث على كفالتهم، ويقول صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى.
ثم حثه ربه على رعاية حق من يسأله مالًا أو علمًا، فقال: "وأما السائل فلا تنهر". فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحدٌ إلا أعطاه، سأله أناس فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: "ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم". وأوصاه الله بذكر نعمه عليه فقال: "وأما بنعمة ربك فحدث". فكان دائم الذكر لها، مستمر الشكر لربه عليها.
وأنتم أيها المقتدون بحبيبكم: اذكروا نعم الله عليكم، فقد خلقكم فأحسن صوركم، وجعل الصحة تاجًا على رؤوسكم، وبَرَغَدِ العيش أمدّكم، وبالأمان في الوطن أكرمكم، وبالقيادة الحكيمة أسعدكم، فاشكروا إحسانه وأظهروا امتنانكم.